مفهوم الرحمة :
الرحمة في اللغة : الرقة والعطف .
وفي الاصطلاح : فضيلة تدل علي قوة صاحبها ونبله لأنه لا يحتكر الخير لنفسه ولا يهمل التفكير في سواه . وقد يعبر عنها بخفض الجناح كما في قوله تعالي : " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ .... " الإسراء 24
وقوله تعالي : " رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ " غافر : 7
أسباب الرحمة عند محمد صلي الله عليه وسلم
تري هل اختار الله اليتم لمحمد صلي الله عليه وسلم ليفجر الرحمة من نفسه تفجيرا أم الرحمة كمال في الطبيعة تجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعي لإزالتها فيتمني لهم الهدي ؟
إن الرحمة عند محمد صلي الله عليه وسلم : لم يكن رد فعل ليتمه . بل كانت " فعلا " متسقا مع وجوده الذي استهل يتيما .
إن رحمة الأقوياء الباذلين لا رحمة الضعفاء اليائسين .
ومنت أقوي بين الأحياء جميعا . يكن اليتيم الذي يواجه الوجود وحده وينهض بالعبء وحده ويختفي من حياته " العائل ليظهر فيها الرجل.
أجل : إن اليتم لأجل مصادر العظمة شأنا ، ولقد كان محمد صلي الله عليه وسلم يمارس الرحمة ممارسة مؤمن بها متضفح بعطرها ، مخلوق من عجينتها . يتحدث عنها حديث خبير بقيمتها ، وكأنه وهو يحيط بها من كل جانب يضع لها دستورا وقانونا ... " الراحمون يرحمهم الرحمن "
" ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " " من لا يرحم لا يرحم "
هكذا قال محمد صلي الله عليه وسلم .
الرحمة في القرآن الكريم والسنة المطهرة
لقد حث القرآن الكريم علي التحلي بفضيلة الرحمة مع أحق الناس بهذه الرحمة وهم الآباء والأمهات قال تعالي : " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً " فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظراته ولا يحد إليهما النظر .
- كذلك أرشد القرآن الكريم إلي أن علاقة الزوج بزوجته ينبغي أن تنهض علي المحبة والرحمة قال تعالي : " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " والرحمة بين الزوجين تتطلب المعاشرة بالمعروف واحتمال الهفوة وصنع الجميل . وكذلك وصف القرآن الكريم أتباع محمد صلي الله عليه وسلم والذين معه والذين استجابوا له وساروا معه بأنهم رحماء بينهم قال تعالي : " مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ... " الفتح 29
وغير ذلك كثير من الآيات التي تحث علي الرحمة بين المؤمنين بعضهم مع بعض ورحمة الله تعالي بعباده ، وهناك عشرات الآيات الكريمة التي جاء فيها وصف الله تعالي بالرحمة .
قال تعالي : " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ويري بعض العلماء بأن كلمة " الرحمن " تفيد الرحمة الشاملة للمؤمنين وغير المؤمنين وأن كلمة : الرحيم " تشمل المؤمنين فقط ولذلك يقال : رحمن الدنيا رحيم الآخرة وذلك أن إحسان في الدنيا يعم المؤمنين وغير المؤمنين وفي الآخرة يختص بالمؤمنين وعلي هذا قال تعالي : " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ " الأعراف 156 تبينها علي أنها الدنيا عامة للمؤمنين والكافرين وأنها في الآخرة خاصة بالمؤمنين .
الرحمة في السنة المطهرة :
لقد أرسل الله نبيه محمد صلي الله عليه وسلم وسكب في قلبه من العلم والحلم وفي خلق من البر وفي طبعه من السهولة والرفق وفي يده من السخاوة والندي ما جعله أزكي عباد الله رحمة وأوسعهم عاطفة وأرحبهم صدرا . ولذلك قال الله تعالي : " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.... " آل عمران 159 .
وعندما حاول المشركون في غزوة أحد أن يغتالوا رسول الله ونظر إليه الصحابة فإذا خده قد شق وسنه قد سقطت في هذه الملحمة قيل يا رسول الله ادع علي المشركين .
فغلبه رفقه ، وجعلت نفسه العالية تلتمس لهم العذر فكان دعاؤه " اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون "
هكذا القلوب الكبيرة أقرب إلي الصفح والغفران ، وأبعد عن القسوة والضغينة . وقد أمر الإسلام بالتراحم العام وجعله من دلائل الإيمان الكامل ، فالمسلم يلقي الناس قاطبة وفي قلبه عطف مذخور وبر مكنون ، فهو يوسع لهم ويخفف عنهم قدر استطاعته .
قال صلي الله عليه سلم : " لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة " رواه الطبراني
فالمسلم الحق هو الذي يبدي بشاشته ويظهر مودته ورحمته لعامة من يلقي والأحاديث تتري حاثة علي الرحمة الشاملة فقال صلي الله عليه وسلم : " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله " البخاري
من مظاهر الرحمة في الإسلام :
1- رحمة النبي صلي الله عليه وسلم بأولاده :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبل رسول الله الحسن والحسين وكان عنده ( الأقرع بن حابس . فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحد منهم قط قال صلي الله عليه وسلم : " من لا يرحم لا يرحم " ( الشيخان عن جرير)
2- الرحمة بالحيوان :
" عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن امرأة بغيا رأت كلب في يوم حار يطيف ببئر قد ادلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها ( خفها ) فغفر لها ( البخاري )
لئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا فإن الرحمة بالإنسان تصنع المعجزات .
3- رحمة بأطفال المسلمين :
يقول الرسول صلي الله عليه وسلم : " إني لأقوم إلي الصلاة وأريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي – كراهية أن أشق علي أمه ... "
4- رحمته بمن عليهم دين :
بمن يعين الناس علي قضاء مصالحهم – بمن ييسر علي المسلمين في سداد الدين بأن ييسر علي المعسرين بالانظار . قال صلي الله عليه وسلم : " من انظر معسرا ، أو وضع له أي تنازل عن جزء من الدين – أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه ، يوم لا ظل إلا ظله .
5- رحمته صلي الله عليه وسلم حتى بالحشرة الضارة عند قتلها :
فإنه صلي الله عليه وسلم حين يأمر بقتل حشرة سامة تفترس الناس بلدغها – يجعل المهارة في قتلها مرادفه للرحمة بها ، ويرجو الثواب من ربه لمن يجيز عليها في غير إيلام لها .انظروا " من قتل وزغة في أول ضربة ، كتبت له مائة حسنة ، وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك .. " إن الوزغة حشرة سامة كالأفعى والخلاص من شرها ضروري – ولكن حتى لا ينسي الرسول صلي الله عليه وسلم الرحمة – فينشئ من مثوبة الله سبحانه جائزة لمن يجهز علي تلك الحشرة القاتلة دون أن يسبب لها ألما من ذلك نفهم أن الرفق والرحمة عند رسول الله هو جوهرالحياة وزينتها " إن الرفق ما كان في شئ إلا زانه .. ولا نزع من شيئ إلا شانه ... "
هذه ومضات من رحمته صلي الله عليه وسلم بالإنسان والحيوان حتي ولو كان ساما والطير حتي الجمادات .
ومن أكساب خلق الرحمة :
1- تذكر نعم الله تعالي علي العبد ، وذلك أن يكون رحيما بعباد الله وبخاصة من حرموا بعض هذه النعم .
2- المسح علي رأس اليتيم : فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إلي رسول الله قسوة قلبه فقال : " امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين " رواه الإمام أحمد
وفي رواية لمن شكا إليه قسوة قلبه : " أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلين قلبك وتدرك حاجتك " ( الطبراني ) .
3- رحمة ذوي العاهات والمرض .
4- مطالعة سير الأنبياء والصالحين الذين تجلت فهم صفة الرحمة فهم أجدر بالتأس والاقتداء أو علي الأقل التشبه بهم كما قال شاعرنا :
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
**** إن التشبه بالكرام فلاح
من حقوق الأقارب الرحم :
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " يقول الله تعالي : " أنا الرحمن وهذه الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته " ( حقق عليه من حديث عائشة ) وقال صلي الله عليه وسلم : " من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه رزقه فليصل رحمه " وقيل لرسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : " أتقاهم لله وأوصلهم لرحمه ..... " ( أحمد والطبراني ) بإسناد حسن
ولما أراد أبو طلحة أن يتصدق بحائط له كان يعجبه عملا يقول الله تعالي : " لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ " قال يا رسول الله ، هو في سبيل الله وللفقراء والمساكين ، فقال عليه الصلاة والسلام : " وجب أجرك على الله قسمه في أقاربك " وقال عليه الصلاة والسلام " أفضل الصدقة علي ذي الرحم الكاشح "
وروي عن عمر رضي الله عنه كتب إلي عماله : مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا ، وإنما قال ذلك لأن التجاور يورث التزاحم علي الحقوق وربما يورث الوحشة وقطيعة الرحم .
نسأل الله العظيم أن يمن علينا بسلامة الصدر وحسن الخلق والمعاملة الطبية بأن تكون سجينة لا تصنعا ابتغاء مرضاة الله تعالي .