من دروس المسجد ( شرح حديث العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله )
________________________________________
الحمد لله وكفى وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى
وأشهد ألا إله إلا الله الإله الأعلى والرب الأوفى
وعد فصدق وحكم فعدل ورحم فغفر وقضى وأمر
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من بلغ وأدى
وعبد وخشع ودعا وقنت وجاهد حتى أتاه اليقين
وبعد هذا شرح لحديث العرباض بن سارية
وهوحديث يؤثر القلب وتدمع له العين وتخشع له الجوارح
الحديث : عَنْ أَبي نَجِيحٍ العِرْباضِ بنِ سَاريةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْها العُيُونُ , فَقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فَأَوْصِنا. قالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا, فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ , تَمَسَّكُوا بِهَا , وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ , وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)). رواهُ أبو داوُدَ والتِّرمِذِيُّ ، وقالَ: حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
أولاً : نتعرف على العرباض من هو
هو : العِرْبَاضُ بنُ سَارِيَةَ السُّلَمِيُّ، كانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وهُوَ أَحَدُ البَكَّائِينَ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُ رَابِعُ الإِسْلاَمِ، وَنَزَلَ حِمْصَ، مَاتَ بعدَ السَّبْعِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ.
الشرح :
قال العرباض إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظنا يوما موعظة بليغة ( أي ) جامعة (وَجِلَتْ) خَافَتْ وَرَقَّتْ (مِنْها) لأَِجْلِهَا (القُلوبُ، وَذَرَفَتْ) سَالَتْ (مِنْها) لِسَمَاعِهَا دُموعُ العُيونِ؛ لأِنَّها خَرَجَتْ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، وَقَلْبٍ نَقِيٍّ، وَلِسَانٍ تَقِيٍّ، وَوَقَعَتْ على قُلُوبٍ صَافِيَةٍ عَنِ الأرجَاسِ، مُشَاهِدَةٍ لِمُحْصِي الأَنْفَاسِ.
(فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّهَا) كأَنَّ هذهِ المَوْعِظَةَ البَلِيغَةَ، (مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ) أَحْبَابَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَهُوَ لا يَتْرُكُ في مَوْعِظَتِهِ مَا يَرَاهُ خَيْرًا لأَصحَابِهِ،(فَأَوْصِنَا) بمَا هُوَ نافِعٌ لَنَا في الدَّارَيْنِ.
(( قالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ)) أَنْ تَتَّقُوهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، بِفِعْلِ مَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ وَتَرْكِ مَا يُبْعِدُ عَنْهُ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَالتَّقْوَى خَيرُ الزَّادِ لِلمَعَادِ وَسَبَبُ الإِكْرامِ عندَ ربِّ العبَادِ، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[سورة المطففين الآية: 6].
((وَالسَّمْعِ)) لأَقوَالِ وُلاَةِ الأُمُورِ
((والطَّاعَةِ)) في غَيرِ الإثْمِ؛ إذْ لا طاعةَ لِمخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ.
((وَإِنْ تَأَمَّرَ عَليْكُمْ عَبْدٌ))حَبَشِيٌّ مَمْلُوكٌ، مُتَغَلِّبًا أَوْ نَائِبًا عَنِ الخَلِيفَةِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ الإِطَاعَةَ- إِذَا أَمَرَ بِغَيْرِ الإثْمِ - في الحقيقةِ للهِ الَّذِي أَمَرَ بالطَّاعَةِ لا لَهُ.
((فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)) في أَمْرِ الدينِ، حتَّى يَصِيرَ الناسُ ثلاثةً وَسَبْعِينَ فِرْقَةً يُكَفِّرُ بَعْضُهُم بَعْضًا أَوْ يَبْتَدِعُونَ أَوْ يَفْسُقُونَ، وَتَتَعَصَّبُ كُلُّ طائفَةٍ لِمَا تَذْهَبُ إليهِ، وَتُقَاتِلُ على ذلكَ في أَمْرِ الإِمَارَةِ، حتَّى يَكُونُوا خُلَفَاءَ مُخْتَلِفَةً، وَأُمَرَاءَ مُتَفَرِّقَةً، كُلٌّ يَدَّعِي أَنَّ الحقَّ مَعَهُ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ أُمُورِهِمُ الظُّلْمُ وَالبَغْيُ.
فإذَا كانَ الأمرُ كذَلكَ ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ)) من الأَئِمَّةِ المُتَّبَعِينَ، والعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ مِنْ بَعْدِي، ((عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّوَاجِذِ))بالذَّالِ المُعْجَمَةِ أَي: الأَنْيَابِ.
أَي: اسْتَمْسِكُوا بِهَا أَشَدَّ الاسْتِمْسَاكِ، ولا تَتْرُكُوهَا أَبَدًا، إذَا أَرَادَ أهلُ السَّوءِ مِنْكُمْ تَرْكَهَا؛ فإنَّ النَّجَاةَ فيهَا والْهُدَى بِحَذَافِيرِهِ في التَّعَلُّقِ بِأَذْيَالِهَا.
((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ)) أَي: احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ الوقُوعِ في البِدَعَاتِ عَمَلاً وَاعْتِقَادًا.
((فإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ)) في الدِّينِ ((ضَلاَلةٌ)) عنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ بِقَدْرِهَا.ومعرفةُ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ ومَا وَافَقَهَا مِنْ أَهَمِّ المَهَمَّاتِ لِيُؤْخَذَ بِهَا؛ لأَنَّها سَفِينَةُ النَّجَاةِ، ومَعْرِفَةُ البِدَعَاتِ مِنْ أَوْكَدِ الأُمُورِ، لِيُحْتَرَزَ عَنْهَا؛ لأِنَّها سببُ الهَلاَكِ، ومَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعْ فيهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ غَافِلُونَ، وَلِلسُّنَنِ السُّنِّيَّةِ تَارِكُونَ، وَلِلْبِدْعَةِ القَبِيحَةِ فَاعِلُونَ. إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا أَعْظَمَ هَذِهِ المُصِيبَةَ في الدينِ
وبعد الشرح نقف على الإستفادة من الحديث
من الحديث فوائد أولها ( الموعظة )
وللموعظة فوائد
إن الموعظة إحياء للقلب، وكبح لجموح النفس وإسرافها، وبعدها عن ربها، وغفلتها عن ذكره، والقلب الجامد الذي لا يتأثر بالموعظة كالصخرة الصمّاء، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع" كما أن العين المجدبة التي لا تبكي من خشية الله لا نور فيها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية، وعين باتت تحرس في سبيل الله"تأمل تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ وسوف ترى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمواعظه استطاع أن يُطهرهم من حظوظ النفس وأهوائها، ويُليِّن قلوبهم، ويجعلها تتعلق بالآخرة، ومن أبلغ الأمثلة على ذلك ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ:"أنَّ ناساً قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم".
سبحان الله! موقف عجيب استثار بعض الأنصار ـ رضي الله عنهم ـ وكاد يذهب ببعضهم مذهباً بعيداً، لكن انظر إلى موعظة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم، وكيف أنه هذّب نفوسهم، وطهرها من علائق الدنيا.. مواعظ يسيرات، لكنها تجاوزت الآذان لتستقر في القلوب!
قال أنس ـ رضي الله عنه ـ:"فحُدِّث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدعُ معهم أحداً غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما كان حديث بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم: أما ذووا آرائنا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منّا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول -صلى الله عليه وسلم- يعطي قريشاً ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني لأعطي رجالاً حديثٌ عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-! فوالله! ما تنقلبون به خير ممَّا ينقلبون به، قالوا: بلى يا رسول الله! قد رضينا، فقال لهم: إنكم سترون أثرة شديدة؛ فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على الحوض"والعلماء والمفكرون وطلبة العلم أحوج ما يكونون للموعظة، فهي تهذيب للنفس، وترويض لكبريائها وشططها، تدفع المرء للتجرد في البحث عن الحق، والصدق في التماس الدليل الصحيح، وفي الترجيح بين الأقوال، فلا يتيه به الهوى في دركات التعصب والاعتداد بالنفس وبطر الحق، خاصة في زمن الفتن وانتشار الأهواء والشبهات، ولهذا كان العلماء أكثر الناس خشية لله ـ تعالى ـ وقنوتاً إليه، قال ـ تعالى ـ: "إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: 28]، وقال ـ تعالى ـ: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" [الزمر: 9].
كما أن في الموعظة استثارة للغيرة في قلب الداعية، تدفعه إلى علو الهمّة، وصدق العزيمة، وتطرد عنه غبار الفتور والعجز، وتستنهضه لبذل قصارى الجهد في تبليغ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيها تثبيت لأهل العلم والدعوة أمام مكايد الأعداء، وأحابيل المفسدين، وظلم الملأ المستكبرين.
وفيها إحياء للقلب المُعرض الذي أَسَرَه الهوى، وســيطر عليــه التقليد والتبعية، فجعله يُدْبر عـن ذكر الله ـ تعالى ـ، قال ـ سبحانه وتعالى ـ: " قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ" [سبأ: 46].
إنَّ مواعظ القرآن والسنة قوارع تهز القلب وتحييه، وتزيل الران عنه، وتجعل العبد المؤمن يتوجه بكليته إلى ربه ـ سبحانه وتعالى ـ تائباً منيباً إليه.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا من التوّابين المنيبين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ولنا وقفة مع الحديث